أنضر الناس وجوها...
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعي من سامع " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (صحيح الجامع)
- وفي رواية له: فرب حامل فقه إلي من هو أفقه منه.
- كثيرة هي الأضداد في دنيا الناس، فنور وظلمة، حر وبرد، سماء وأرض، علو وسفول، عزة وذلة، وخير وشر.
- ولكن هل سمعت أخي الحبيب عن وجوه مضيئة ناضرة.. ووجوه مظلمة باسرة؟
- ثم هل سألت نفسك: لماذا نضرت هذه الوجوه وأضاءت؟
- ولماذا قبحت تلك الوجوه واكفهرت؟
- نعم.. لقد أجابنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بكلمات جامعة في الحديث الذي بين أيدينا بما يشفي صدورنا - والذي هو من الأحاديث المتواترة عنه صلي الله عليه وسلم، ومن أسباب تواتره أن النبي صلي الله عليه وسلم خطب به المسلمين يوما بمني.. إن صنفا من صفوة الناس وخيرة المجتمعات نضرت وجوههم وازدادت بهاء وحسنا وجمالاً وعزا ببركة دعوة الرسول (صلي الله عليه وسلم): "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه".
- ولم لا؟، وقد كان الواحد من هؤلاء الأفذاذ يضرب أكباد الإبل بالشهور سعياً.. يقطع المسافات ويكابد الآلام طلباً لحديث واحد من أحاديث الهادي البشير (صلي الله عليه وسلم).. فإذا ما وجد عنده الحديث الذي يبحث عنه كان وكأنما وجد كنزا، فيجلس بين يديه بكليته جلسة المتعلم المتواضع بقلب حاضر وأذان صاغية.. حتى إذا ما حفظه ووعاه رجع ليبلغه كما سمعه.. داعيا به الناس إلى الخير مخرجا إياهم من ظلمات الجهالة والبدع إلي نور العلم واليقين والسنة المطهرة.. فكان جزاؤه وأمثاله من جنس أعمالهم الطاهرة المطهرة.
- وهكذا نري أن الناس في هذه الدنيا منهم من يدعو إلي الخير والهدي والرشاد.. فيدل الناس علي ذلك ويتمني أن لو هدي الله الناس جميعاً، وآه لو استجاب الناس كلهم إلي هذه الدعوة المباركة لما رأينا تعيساً علي وجه الأرض ولا فقيراً ولا محروماً، وما رأينا طريداً ولا شريداً، ولما كان هناك حروب ولا آلام، ولعاش الناس في حب وسلام، ولكنها السنة الكونية (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).. ولذلك نراهم متفرقين ( ولا يزالون مختلفين).
- إن الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم يمتدح صنفا من الناس اهتم بكل ما ورد عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وتقريرات، واهتم بمدارسة حديثه صلي الله عليه وسلم رواية ودراية وحفظه ووعاه سواء كان ذلك الحفظ حفظ صدر، أو ضبط كتاب.
- ثم راح ينشره بين الناس ليفسح المجال أمام من منحه الله فهما واجتهادا وذكاء.. فيستخدم ذلك في استخراج ما في حديث النبي صلي الله عليه وسلم من درر وكنوز، ويستنبط ما يحتاج إليه الناس في عباداتهم ومعاملتهم وفي آجلهم وعاجلهم، فيسعدوا في حياتهم ويفوزوا في آخرتهم، امتدح الله تلك الطائفة الخيرة، بل ودعا لهم بنضارة الوجه وصفاء النفس وسلامة الفؤاد.
- وإذا كان المصدر الأول للتشريع الإسلامي هو القرآن الكريم.. ذلك الكتاب المعجز الذي أعجز العالمين أن يأتوا بمثله.. أو بعشر سور مثله أو حتى بسورة واحدة من مثله، بل وأبهر كل العقول التي راحت تكتشف كل يوم من أسراره في الكون، ومن أوجه إعجازه في كل مجال من مجالات الحياة.
- فإن السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني لشرعنا الحنيف.. والتي جاءت علي صور شتي، جاءت إما مؤكدة للقرآن، وإما مبينة وشارحة له، وكذلك جاءت مفصلة لما أجمل فيه ومقيدة لمطلقه ومخصصة لعمومه.. وقد تأتي لتنشئ حكما لم يأت به القرآن.. وصدق الله إذ يقول: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).
- وقال أيضاً: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي).
- وقال: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ).
- إننا بذلك نبطل زعم من قال: نأخذ القرآن ونترك السنة، فلا حاجة لنا إليها والقرآن يكفينا، أولئك الذين يرفضون سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد أمر بحفظها وتبليغها وأخبر- أو دعا - بنضارة وجوه من حفظها وبلغها، أولئك الذين رفضوا سنة المصطفي صلي الله عليه وسلم هم علي النقيض تماماً، فتراهم وقد مسخت صورتهم واسودت وجوههم وأظلمت قلوبهم وضاقت عليهم أنفسهم.
- وقد تراهم قد تسموا بأسماء المسلمين ولبسوا مسوح العباد وادعوا أن لهم باعاً في الفقه أو نصيبا من العلم وعدوا أنفسهم من أهل الفكر الإسلامي، وكذبوا، إي وربي كذبوا وافتروا علي الإسلام افتراء عظيماً.
- وكذلك كذب قوم آخرون قالوا: نقبل من السنة ما يوافق عقولنا، أما ما لم يوافق أفهامنا ولا يتماشى مع نظرياتنا نرفضه، فراحوا يردون جانبا من أحاديث صحيحة صريحة واضحة المعاني لا لبس فيها ولا غموض فقط لأنها لا توافق أهوائهم الفاسدة، ولا تتماشي مع أمزجتهم المنحرفة، يلبسون بذلك علي عامة المسلمين دينهم، ويشككون في نسبتها إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم.. رغم قطع أهل الفن من علماء الحديث الأجلاء بصحتها.
- فمثلاً يرددون حديث الذباب الذي يقول: "إذا وقع الذباب في إناء فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الأخرى شفاء".
- ألا يفقه هؤلاء المشككون أنه من الواجب علينا نحن المسلمين حينما يصح الأمر عن النبي صلي الله عليه وسلم، ويقطع إجماع العلماء بدلالته أن نسلم ونذعن وننقاد دون اختيار ولا فلسفة ولا رد لنص صريح صحيح سواء علمنا الحكمة من ذلك الأمر أم لم نعلمه.
- ثم نسألهم: وهل فرض علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن نشرب من إناء وقع فيه الذباب، أم أن الأمر علي التخيير؟
- إنما أمر النبي صلي الله عليه وسلم من اختار بمحض إرادته أن يشرب ذلك الإناء أن يغمس الذباب إذا وقع فيه حفاظاً علي صحة ذلك الإنسان وحياته إذ اخبره ربه أنه في أحد جنا حيه داء ، وفي الأخر دواء لذلك الداء، فلعل أحدا بلغ من الفقر والعوز والحاجة ما لا يستطيع معه أن يضحي بلقمة طعام وقع فيها شيء من هذه الهوام.. أما من عافته نفسه فلا حرج عليه أن يريقه ولا داعي لشربه.
- ثم نقول لهم: وهل تشعرون بالحرج عندما يثبت العلم الحديث أن أحد جناحي الذباب يحمل الداء متمثلاً في عدد هائل من الميكروبات الضارة، ويحمل الجناح الآخر الدواء الناجع لذلك الداء؟
- أم هل تبلدت أنفسكم فصارت لا إحساس لها ولا شعور، فإذا ما أفحمتم في موقف ذهبتم تبحثون عن موقف آخر تشككون به عامة المسلمين في سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
- إن دورنا واضح.. وهو أننا إذا ما سمعنا حديث صحيحاً عن نبينا محمد صلي الله عليه وسلم أن نبلغه كما سمعناه، وافقت عليه عقولنا أم لم توافق، إذ قد لا يتفق مع عقولنا ويثبته لنا العلم صحته ونفعه.. وربما يتلقاه صاحب فكر ثاقب وفقه راشد وفهم سديد فيستنبط من الحديث ما فيه النفع للناس في الدنيا والآخرة.
- إن من الواجب علينا أن نحب رسول الله صلي الله عليه وسلم من أعماق قلوبنا، ونقدره قدره، ونضعه في أعلي مكانه ومنزلة، ونعظم أقواله وأفعاله.. ثم ننقلها إلي كل الناس لتكون لنا ولهم مشاعل هدي تضئ لنا طريقاً قد ادلهمت ظلمته وعظم خطبه، ننقلها كما هي غضة طرية وسهله ميسورة فيها الخير والنفع والهدي والرشاد.
- ولم لا؟ وهي السلسال العذب الذي إذا ما ارتشفته النفوس السوية شفيت من مرض، وبرئت من علة، وقويت من ضعف.. كلام قليلة حروفه كثيرة معانيه، لا مستهجن فيه ولا غريب، بل ينطق بالحكمة ويدل علي الهدي ويوصل إلي الرشاد تنجذب إليه كل نفس تخلصت من هواها وتجردت من غيها، وإذا ما أنصتت إليه أحبته فإذا ما انتهي قبلته، لأنه يتوافق مع كل فطرة طيبة ويتماشى مع كل عقل سليم فلا ينطق إلا بالصدق ولا يحكم إلا بالحق، لا اتهام فيه لأحد ولا تجريح.