كيف لهذه الحفرة الصغيرة أن تكون حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة .. سبحان الله ..
يبدو أن الجو قد إزداد برودة .. أم هي قشعريرة في جسدي من هذا المنظر...
هل هذا صوت الريح ؟! ليس ريحاً ... لا أرى ذرة غبار في الهواء
... هل هي وسوسة أخرى
استعذت بالله من الشيطان الرجيم ... ثم أنزلت رداءي ووضعته على الأرض ثم جلست وقد ضممت ركبتي امام
صدري أتأمل هذا المشهد العجيب ...
إنه المكان الذي لا مفر منه أبداً ..
سبحان الله .. نسعى لكي نحصل على كل شئ ... وهذه هي النهاية : لاشئ ...
كم تنازعنا في الدنيا ؟.. اغتبنا .. تركنا الصلاة .. آثرنا الغناء على القرآن ..
والكارثة أننا نعلم أن هذا مصيرنا .. وقد حذّرنا الله منه ورغم ذلك نتجاهل ..
أشحت بوجهي ناحية القبور وناديتهم بصوت خافت ... وكأني خفت أن يرد عليّ أحدهم :
يا أهل القبور .. مالكم ؟ .. أين أصواتكم ؟ .. أين أبناؤكم عنكم اليوم ؟..
أين أموالكم .. ؟ أين وأين .. كيف هو الحساب ؟ ..
أخبروني عن ضمة القبر .. أتكسر الأضلاع ؟
أخبروني عن منكر و نكير .. أخبروني عن حالكم مع الدود ..
سبحان الله .. نستاء إذا قـدم لنا أهلنا طعام بارد أو لا يوافق شهيتـنا .. واليوم .. نحن الطعام ..
لابد من النـزول إلى القبر ... قمت وتوكلت على الله ، ونزلت برجلي اليمين
، وافترشت شماغي ، ووضعت رأسي .. وأنا أفكر .. ماذا لو انهال عليَّ
التراب فجأة ؟! ...
ماذا لو ضُم القبر عليَّ مرة واحدة ... ؟!
نمت على ظهري وأغلقت عينيَّ حتى تهدأ ضربات قلبي ... حتى تخف هذه الرجفة التي في الجسد ...
ما أشده من موقف وأنا حي .. فكيف سيكون عند الموت ؟
فكرت أن أنظر إلى اللحد .. هو بجانبي .. والله لا أعلم شيئاً أشد منه ظلمة ..
ياللعجب !!.. رغم أنه مسدود من الداخل إلا أنني أشعر بتيار من الهواء البارد يأتي منه !! ..
فهل هو هواء بارد أم هي برودة الخوف ؟
خفت أن أنظر إليه فأرى عينان تلمعان في الظلام وتنظران إليَّ بقسوة .. أو
أن أرى وجهاً شاحباً لرجل تكسوه علامات الموت ناظراً إلى الأعلى متجاهلني تماماً ..
حينها قررت أن لا أنظر إلى اللحد .. ليس بي من الشجاعه أن أخاطر وأرى
أياً من هذه المناظر رغم علمي أن اللحد خالياً .. ولكن تكفي هذه المخاوف
حتى أمتنع تماماً عن النظر إليه ..
تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتضر (لا إله إلا الله .. إن للموت لسكرات)
تخيلت جسدي عند نزول الموت يرتجف بقوة وأنا أرفع يدي محاولاً إرجاع روحي .. ..
و تخيلت صراخ أهلي عالياً من حولي : أين الطبيب ؟! أين الطبيب ؟!
) فلولا إن كنـتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين (
تخيلت الأصحاب يحملونني ويقولون : لا إله إلا الله ...
تخيلتهم يمشون بي سريعاً إلى القبر .. وتخيلت أحب أصدقائي إلي وهو يسارع لأن يكون أول من ينـزل إلى القبر ..
تخيلته يضع يديه تحت رأسي ويطالبهم بالرفق حتى لا أقع ... يصرخ فيهم : جهزوا الطوب ...
وتخيلت أحمد .... يجري ممسكاً إبريقاً من الماء يناولهم إياه بعدما حثوا عليَّ التراب ..
تخيلت الكل يرش الماء على قبري ..
تخيلت شيخنا يصيح فيهم : ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل .. ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل ..
ثم رحلوا وتركوني فرداً وحيداً ...
تذكرت قول الله تعالى ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة .. وتركتم
ما خوّلناكم وراء ظهوركم )..نعم صدق الله ..تركت زوجتي .. فارقت أبنائي ..
تخلـيّت عن مالي .. أو هو تخلى عني ..
تخيّلت كأن ملائكة العذاب حين رأوا النعش قادماً .. ظهروا بأصوات مفزعة .. وأشكال مخيفة ..
ينادي بعضهم بعضاً : أهو العبد العاصي ؟...
فيقول الآخر : نعم ..
فيقال : أمشيع متروك أم محمول ليس له مفر ؟
فيجيبه الآخر : بل محمول إلينا ليس له مفر..
فينادى : هلموا إليه حتى يعلم أن الله عزيز ذو انتقام ..
رأيتهم يمسكون بكتفي ويهزونني بعنف قائلين : ما غرك بربك الكريم ؟
ما غرك بربك الكريم حتى تنام عن الفريضة ..
ما الذي خدعك حتى عصيت الواحد القهار؟
أهي الدنيا؟ .. أما كنت تعلم أنها دار فناء؟ وقد فنيت!
أهي الشهوات؟ .. أما تعلم أنها إلى زوال؟ وقد زالت!
أم هو الشيطان؟ .. أما علمت أنه لك عدو مبين؟
أمثلك يعصى الجبار ... والرعد يسبح بحمده والملائكة من خيفته ..
لا نجاة لك منَّا اليوم ... اصرخ ليس لصراخك مجيب ...
فجلست اصرخ رب ارجعون ... رب ارجعون ...
وكأني بصوت يهز القبر والفضاء ... يملأني يئساً يقول :
( كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )
بكيت ماشاء الله أن أبكي ..
ثم قلت : الحمدلله رب العالمين .. مازال هناك وقت للتوبة ...
استغفر الله العظيم وأتوب إليه
ثم قمت مكسوراً ... وقد عرفت قدري ... وبان لي ضعفي ..
أخذت رداءي وأزلت عنه ما بقى من تراب القبر ،
وتذكرت مرة اخرى قول الميت
( رب ارجعون .. رب ارجعون ) فقلت في نفسي : ها أنت قد رجعت فماذا أنت فاعل ؟
فماذا أنت فاعل ؟
فماذا أنت فاعل ؟
منقول للعظة والعبرة